السبت، 18 فبراير 2012

مقالة ضيف - نقد الدليل الكوسمولوجي (الجزء الأول)

::
هذه مقالة أخرى من سلسلة مقالات ضيف، كتبها القاريئ الكريم Apollo، وهو طالب دراسات عليا يحضر لشهادة الدكتوراه في علم الفلك الفيزيائي  Astropysics. ومقالة اليوم تمثل الجزء الأول من أربعة مقالات علمية لنفس الكاتب، يقيّم فيها صحة الإستدلالات العلمية على وجود الإله. وسوف يتم نشر كل من هذه المقالات على حدة خلال الأسابيع القادمة.  المقال الأول: 
نقد الدليل الكوسمولوجي
يُقّسم الفيلسوف الألماني ايمانويل كانت في كتابه نقض العقل الخالص الأدلة المقدمة تاريخيا على وجود الله الى ثلاثة: الدليل الاونتولوجي (علم الوجود أو الكينونة)، الدليل الثيولوجي (اللاهوتي، الإلوهي) والدليل الكوسمولوجي (الكوني). هذا الأخير يتشدق به اليوم العديد من رجال الدين الذين لاعلم لهم بالكوسمولوجيا، بل لاقدرة لهم على فهمها نظرا لجهلهم بالفيزياء الحديثة، فتجدهم يتفوهون بتفاهات فارغة ظانين أنهم قد قبضوا على المبادىء الجوهرية للكون وأسس وجوده، ومتجاهلين سخرية وضحك كل من له دراية بعلم الكون عليهم.

في هذه السلسلة من المقالات، سنتطرق إلى الدليل الكوسمولوجي الذي يستدل به المؤمن على الإله، ونضع هذا الدليل تحت مقصلة الفيزياء الحديثة Modern Physics بمناهجه التفسيرية كـ التضخم العشوائي Chaotic inflation theory  والنظرية الخيطية String theory، ونتناوله من مختلف الأوجه التي يُقدم بها:  
  1. صلاحية كوكب الأرض للحياة: من أشهر الحجج وأكثرها سذاجة هو المتعلق بخصائص كوكب الأرض كحجمه وبعده عن الشمس وتركيبة غلافه الجوي التي تبدو مختارة بعناية دقيقة لتسمح للانسان بالعيش عليه.
  2. الثوابت الكونية: من أحدث الصيغ للدليل الكوسمولوجي هو المسمى بـ Fine-tuned universe  والمتعلق بالثوابت الأساسية للكون the fundamental constants  التي تتحكم بالكون نفسه كقدرته على الوجود وعلى إمكانية تشكيله لنجوم ومجرات من عدمها.
  3. الكون: أسباب وجوده وأزليته.
  4. الوجود بحد ذاته، هل نحن موجودين؟
كوكب الأرض
من منا لا يشعر بتميز كوكب الأرض، بجماله وخضرته ومائه، وبهوائه ودفئه وثرائه؟ وكم منا نظر الى السماء ليلا ليتسائل: هل من غير هذا الكوكب؟ ليـأتيه الصباح بنعيق شيخ يصيح بالنفي قائلا يا ويله ....
إمكانية تواجد الحياة على كوكبـ، سوف يعتمد على بعده عن الشمس
لا يجادل عالم بأن كوكب الأرض مثالي للحياة، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمسافته عن الشمس تقع في منتصف "المنطقة المعتدلة" Goldilocks zone للنظام الشمسي حيث أن الحرارة معتدلة فيها، تسمح للمياه السائلة بالوجود، والماء السائل هو أصل ومصدر الحياة كما نعرفها. ومن المعلوم في البيولوجيا الفضائية Astrobiology أن تتبع وجود المياه هو القاعدة لايجاد أي حياة خارج الأرض(1). فلو أن ألأرض كانت بعيدة بمقدار بسيط عن موقعها الحالي لما تبقي عليها من ماء، فاما يتبخر أو يتجمد. ولكم في المريخ مثال هام، حيث تشير الدراسات الى أنه كان يحتوي على محيطات ضخمة من المياه التي اختفت بسبب إبتعاده عن المنطقة المعتدلة(2).
بالاضافة الى ذلك، فكوكب الأرض يتمتع بغلاف جوي يحتوي على العناصر الضرورية للحياة كالاوكسيجين، وعلى غاز الاوزون الذي يحميها من الأشعة الفوق البنفسجية القادرة على منع تطور الحياة ( والتي تستعمل مخبريا لقتل البكتيريا )، كما أنه يساهم في الحفاظ على الحرارة الضرورية المعتدلة لسطح الأرض،  ويشكل عامل أساسي لتطور المناخ.
ولا ننسى أيضاً المجال المغناطيسي للأرض، والذي تولده نواة الأرض من الحديد والمعادن المنصهرة التي تتحرك في باطنها لتشكل دينامو يولد هذا الحقل الذي يحمي الأرض من الانفجارات الشمسية التي تبث إشعاعات قاتلة وقادرة على ابادة كل أشكال الحياة على الأرض. كما يستوجب الذكر أهمية سرعة دوران الأرض، وسمك القشرة الأرضية التي لو قلت لكثرت البراكين، ومساهمة هاتان الميزتان في امكانية تواجد واستمرار الحياة على هذا الكوكب.
أخيرا، يجب ذكر الشمس التي تتمتع بخصائص تساعد على وجود الحياة، كمعدل حرارتها المتوسط، وحجمها، وثبات نورانها luminosity stability، وارتفاع كمية المعادن فيها التي أدت الى تشكل الأرض على الشكل الذي هو عليه. وتجدر الاشارة الى أنه يطلق اسم نجوم النسق الأساسي main sequence stars على النجوم المشابهة لها.
ما قرأتموه أعلاه هو ما تجدونه في معظم الأدبيات الدينية كدليل على تميز الأرض وكونها قد خُلِقت بتلك الخصائص ليتمكن الانسان من العيش عليها. وللوهلة لأولى يبدو أن الدليل قوي ومقنع لجاهل لا يعرف من علوم الفضاء الا القشور، إنما للعلماء الحقيقيين رأي آخر.
نجم في طور التشكل، والصورة من تلسكوب لاستقبال أشعة ماتحت الحمراء
والسؤال الهام هو: كم عدد الكواكب في الكون المنظور؟ للاجابة يجب أن نعطي نبذة مختصرة عن كيفية تشكل الكواكب.
باختصار الكواكب تتشكل سوية مع النجم الأم من بقايا السحابة الجزيئية Molecular cloud التي يتشكل منها النجم، فالنجوم تنشأ عند تكتل سحابة ضخمة من الهيدروجين بواسطة الجاذبية، مما يؤدي تجمع جزيئاتها بفعل الضغط الى ارتفاع الحرارة داخلها وتحول قلبها الى نجم(3-4). أما بقية المواد المتبقية من السحابة فمعظمها يتلاشى، باستثناء القليل الذي يتحول الى كواكب. فلا توجد كواكب وحيدة في الكون، لأن جميعها تُخلق وتقضي حياتها الى جانب النجم الأم.
من هنا نستنتج بأنه لتقدير عدد الكواكب في الكون يكفي تقدير عدد الأنظمة الشمسية التي تحتوي على كواكب، وذلك عبر تقدير عدد النجوم مع الأخذ في الحسبان بأنه ليس جميع النجوم تحوي نظام شمسي. فاذا علمنا بأن عدد المجرات في الكون المنظور يبلغ حوالي ثلاث مئة مليار، يحتوي كل منها على مئة مليار نجم، فيمكن أن نحصل على عدد النجوم في الكون(5-6)، ولابأس اذا قلنا بأن واحد في المئة منها فقط يوجد معها كواكب ( بالرغم من أن التقديرات الحديثة تشير إلى وجود مامعدله 1.3 كوكب لكل نجم ) فسنحصل على عدد الكواكب الخيالي الموجودة.
ومن المعلوم كما ذكرنا، بأنه ليس كل الكواكب قادرة على استضافة حياة، بل عليها أن تكون شبيهة بكوكب الأرض من حيث المواصفات التي سبق ذكرها والتي يمكن أن نعزي معظمها الى ثلاثة عوامل: حجمها، وموقعها، بالاضافة الى نوع النجم الأم. فهذه الخصائص هي ما سيحدد وجود المياه والغلاف الجوي وغيره من عدمه، و لذلك علينا أن نقدر اعتمادا على الكواكب التي تم رصدها نسبة الكواكب ذات الصفات المناسبة لنتوصل بعد الحسابات المحافظة جدا بأن مانسبته واحد في المئة من الكواكب الموجودة هي فقط التي تتمتع بالخصائص المطلوبة، لنتوصل أخيرا الى رقم نهائي يفوق المئة ألف كوكب قابل للحياة في مجرتنا وحدها.
المرحلة الأخيرة من تشكل الكواكب. والصورة للتوضيح فقط وليست حقيقية، فلا قدرة للتلسكوبات على الوصول إلى هذا المستوى من الوضوح حالياً
طبعاً لن تتشكل الحياة على جميع هذه الكواكب، وإن تشكلت فلن تتطور بالضرورة لتصبح عاقلة، ولكن هذا الرقم الضخم لعدد الكواكب يؤكد بما لا يحتمل الشك بأن كوكب الأرض غير مميز بأي شكل من الأشكال، بل هناك كواكب كثيرة أخرى تشابهه بالخصائص والمميزات الصالحة للحياة يقدر عددها بمئات الآلاف، بل بالملايين. ومنذ بضعة أسابيع فقط، أعلن الفريق العلمي المسؤول عن تليسكوب كابلر اكتشافهم لست كواكب جديدة بعضها مشابه للأرض لتضاف الى التي تم الاعلان عنها سابقا، مما يؤكد بأن الكواكب الشبيهة بالأرض هي القاعدة و ليس الاستثناء.




References
1-      Habitable Zones in Extrasolar Planetary Systems, S. Franck et al
2-      Ancient oceans, ice sheets and the hydrological cycle on Mars, V.R Baker et al: Nature 1991
3-      Star formation in molecular clouds - Observation and theory, F.H Shu et al: Annual review of astronomy and astrophysics. Volume 25
4-      The Formation of Planetesimals, P. Goldreich et al: APJ 1973
5-      A substantial population of low-mass stars in luminous elliptical galaxies, Van Dokkum & Conroy : Nature 2010
6-      Astronomers count the stars, BBC News. July 22, 2003.
7-      Marcy, G.; Butler, R.; Fischer, D.; Vogt, Steven et al (2005). "Observed Properties of Exoplanets: Masses, Orbits and Metallicities". Progress of Theoretical Physics Supplement 158: 24–42
الكاتب: أبولو  Apollo
يتبع ...

لقراءة الجزء الثاني من المقالة إضغط هـنـا

الجزء الثالث هـنـا
* * * * * * * * * *

هناك 13 تعليقًا:

غير معرف يقول...

هناك اتجاه آخر لا يقل أهمية عن هذا، لماذا عندما نتحدث عن إمكانية تواجد حياة نتحدث عن الظروف المناخية والماء والمغناطيسية وما إلى ذلك، وكأن الحياة لا يمكن أن تكون إلا إذا كان الكائن الحي شبيه بما نعرفه من كائنات..
تخيل مكاناً ما لا يوجد فيه ولا ذرة أكسجين ودرجة حرارته تتغير من -1000 وحتى +1000 ويوجد فيه اليورانيوم بكثرة والأشعة الكورنية تضربه على مدار الساعة .. هل هذه الظروف لا تساعد على تواجد حياة؟
أعتقد أن الحياة ممكنة في أي ظرف .. فقد يأتي نوع من الكائنات وتركيبته متوافقة مع تلك الظروف .. بل قد تكون تلك الظروف هي المثالية لنموه بحيث إذا خرج منها وعاش في بيئة مثل الأرض فإنه سيموت !!!
ولنضرب مثلاً بالسمك .. فالإنسان لا يستطيع العيش إلا في وجود الهواء بينما الأسماك إذا خرجت إلى الوسط الذي يعيش فيه الإنسان تموت..
أرجو أن تكون الفكرة واضحة ..
تحياتي ..

Apollo يقول...

عزيزي غير معروف

كلامك و ان احتوى على بعض الصحة الى أنه مبالغ فيه:
فمن الممكن جدا وجود كائنات تعيش على بيوكيمياء غير مشابهة للتي على الأرض كأن تكون مبنية على السيليكون و ليس الكوربون, أو أن تنمو في بيئة مختلفة كعلى سطح تيتان قمر زحل.

أما موضوع اليورانيوم و الأشعة الكونية فهي بكل بساطة ستدمر أي بنية structure و تزيد التبعثر الحراري بشكل يستحيل معه وجود بنية معقدة لزمان كافي لتطورها.

تحياتي

غير معرف يقول...

واااااااااااااااااو ، راااااااااااااائع يا رائع

غير معرف يقول...

وااااااااو، أما رد مفحم من واحد فاهم إيش يكتب

غير معرف يقول...

أنا غير معرف رقم (1) !!
شكراص على التوضيح .. علماً بانني عندما بالغت بذكر اليورانيوم والأشعة وما إلى ذلك كان مقصدي هو أنه مهما كانت الظروف سيئة في نظرنا في مثالية جداً جداً في نظر طرف ما آخر ..
فكرتي هي أنه ليس بسبب أن الإنسان يتطلب بيئة معينة ليعيش فجاء (الله) وخلق له الأرض على مقاسه، بل إن الأرض لها مواصفات معينة وجاء الإنسان عبر مراحل تطورية طويلة لتكون مواصفاته ومتطلباته متوافقه مع خصائص الأرض.
ولو وجد مكان أخر بخصائص معاكسة تماماً لخصائص الأرض لصارت هناك احتمالية ولو ضيئلة لحياة من نوع ما تتناسب مع ظروف ذلك المكان.
تحياتي

Apollo يقول...

عزيزي غير معروف 1

هذا صحيح, فمثلا يتم الآن دراسة احتمالية وجود كائنات مجهرية على سطح تيتان قمر زحل تنمو في بحيرات الميثان السائل بدل عن المياه, و يوجد أدلة تؤيد وجودها. الا أنه في كل الأحوال نحتاج الى غلاف جوي يحافظ على حرارة السطح و يحميه من الأشعة (و هو موجود على تيتان) بالاضافة الى حقل مغناطيسي, و طبعا يجب وجود بيئة سائلة لتنمو فيها الحياة , و ان كان الأبسط أن تكون الماء, الا أنه لا مانع من أن يلعب سائل آخر هذا الدور.

تحياتي للقراء و لأصحاب الردود

Apollo يقول...

و تجدر الاشارة الى أنه تم دراسة امكانية تشكل حياة مجهرية بسيطة داخل طبقات غلاف جوي كثيف و معقد جدا عالغلاف الجوي للزهرة أو لأحد الكواكب الغازية العملاقة. ولكن هذا يبقى في دائرة التكهنات فلا يوجد دليل حاسم الى الآن حول هذه الأنواع من الحياة, فحتى من أعلنته الناسا العام الماضي حول اكتشاف بكتيريا تعيش على الزرنيخ بدل الفوسفور يوجد الآن شك كبير حوله يرقى الى درجة الرفض في الأوساط العلمية.

Apollo يقول...

تصحيح:
ذكرت في الرد السابق بأن الحياة قد توجد في بحيرات الميثان على تيتان, الصحيح هو في بحيرات الايثان و ليس الميثان.

Morph Anderson يقول...

شكراً أخي بصيص على هذه الإستضافة الجميلة لهكذا مقال رائع ، راجياً من الكاتب : Apollo أن يسمح لي بعد إذنه بنقل هذا المحتوى مع الإحتفاظ بحق الكاتب و حقوقه الفكرية بذكر إسمه مرفقاً للمقال .

Apollo يقول...

عزيزي Morph Anderson

طبعا لا مشكلة بنقل المحتوى مع ذكر الكاتب و موقع النشر الأصلي مدونة بصيص, و شكرا لاطلاعي على الجهة التي سينقل اليها.

خالص تحياتي

Fransy يقول...

شكرا للكاتب على هذا المقال الذكي الثري.
الصديق غير معروف رقم 1 محق تماما في فكرته. يستحيل تعريف اشكال الحياة الممكنه وردها جميعا الى اشكال خلوية او حتى بيوكيميائية.
مسالة مناسبة الارض للحياة تذكرني بقصة القسيس الذي يقول للسذج:
سبحان الله الذي جعل الانهار تمر من وسط المدن.
الحياة هي التي تأقلمت مع الارض وليس العكس.

هناك مقال قيم ومشابه في مجلة الاوان:
http://www.alawan.org/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%84%D9%8A%D9%84.html
محبة

غير معرف يقول...

شكرا بصيص على استضافة مثل هذه المقالات العلمية والتي تصيب الملتحين بالدوارعند قراءتها لأنهم لايفهمون إلا الكلام الخرافي المسجوع
أتفق مع ملاحضة غير معرف فالحياة يمكن ان تتواجد تحت ضروف اخرى فمثلا هناك بكتيريا حية موجودة في سائل الأمونياك وهذا اكتشاف حديث
اريد فقط ان اثيرالإنتباه الى خطئ مطبعي فعنوان كتاب كانت هو نقذ العقل الخالص وكلمة نقذ كما تعرف تعني ابراز العيوب والجمال وليس نقض التي تعني هدم
وشكرا على تفهمك
......................

عابرسبيل

basees@bloggspot.com يقول...

الأخوان العزيزان مورف أندرسون وعابر سبيل ،،

أشكركما بدوري على كلماتكما المشجعة، وأخصص شكري وامتناني للأخ أبولو على مقالته التويرية القيمة، بانتظار الأجزاء القادمة على شغف.

خالص المودة