الأربعاء، 21 أكتوبر 2009

عند التصادم ، بداية النهاية

pp


تجري هذه الأيام عملية تبريد لمصادم الهدرونات الكبير Large Hadron Collider لتخفيض حرارته إلى مايقارب الصفر المطلق وذلك إستعداداً لإعادة تشغيله بعد العطل الذي أصابه العام الماضي من جراء تسرب طن من سائل الهيليوم المبرّد إلى النفق الذي يحتويه والذي أدّى إلى تأخير برنامج التجارب المقررة له إلى منتصف نوفمبر من هذه السنة. واستناداً إلى الخبر الذي نقلته محطة البي بي سي الإخبارية مؤخراً ، فقد أوصل المهندسون درجة برودته الآن إلى 271 درجة تحت الصفر وهو المعدل المخصص لتشغيله. وهذا المستوى الحراري المنخفض هو أيضاً ، بالمناسبة ، أبرد من أي درجة يمكن الوصول إليها طبيعياً في أي مكان من الفضاء الخارجي. ولأحبائي وأعزائي القادمين للتو من سفرهم إلى المريخ والذين لم يسمعوا بهذا الجهاز لغيبتهم على أرض الصخور الحمراء ، فقد أضفت في الفقرة القادمة نبذة قصيرة عنه يمكن تجاوزها ، تفادياً للتكرار ، إلى الفقرة التي تليها لهؤلاء الذين لم يحالفهم الحظ للسفر هناك وظلوا مثلنا على الكرة الأرضية غير قادرين على الهروب من ملاحقة أخباره لهم ..

هذا المصادم هو آلة علمية لاستكشاف ودراسة مايحدث عندما تصطدم نواة الذرات أو البروتونات Protons ببعضها وتنفصل من شدة الإرتطام أجزائها الأولية المكونة لها. لتحقيق ذلك ، بُني هذا الجهاز ليُطلق حزمتان إشعاعيتان من البروتونات في إتجاهين معاكسين بسرعة تدنو من سرعة الضوء لترتطم ببعضها ، وفي نقطة الإرتطام ، تُلتقط صور الجسيمات الناتجة عن هذا التصادم لدراستها والتعرف عليها ومنها إختبار صحة الفرضيات التي تصف الإطار النظري لفيزياء الجسيمات المكونة للمادة. ولكن لتفتيت الذرة إلى مكوناتها الأولية تتطلب هذه العملية آلات في منتهى التعقيد والقوة والضخامة وهذا مايمثله المصادم ، إذ يتكون من نفق دائري تحت الأرض يبلغ طوله 27 كيلومتر ويتألف من عدة أجزاء من أهمها القطع المغناطيسية التي تغلّف الحزمات البروتونية ويبلغ عددها 1232 قطعة طول كل منها 15 متر ووزنها 35 طن وظيفتها تقويس هذه الحزمات ضمن المسار الدائري المقرر لها وتعجيل سرعتها وتوجيهها إلى نقطة التصادم ، وقد وصفت عملية توجيه الحزمات البروتينية للإرتطام ببعضها رأساً برأس في النفق كمن يطلق إبرتي حياكة من جهتين مختلفتين عبر المحيط الأطلسي ليتصادم طرفيها ببعض. ولرفع فعالية هذه المغناطيسات ، تُبرّد بواسطة غاز الهيليوم المسيّل إلى 271 درجة تحت الصفر.

إنتهينا من الجزء التكنيكل الممل ، لنلتفت الآن إلى الجزء المثير من الموضوع. يقول العنوان "... بداية النهاية" ، ولاشك في أن القارئ قد تسائل قاطباً جبينه تعتري وجهه لمحة من القلق المبرر على هذا التصريح الدراماتيكي ، بداية ونهاية ماذا ؟

البداية هي عملية واقعة قيد التنفيذ لامفر منها وهي بداية تشغيل هذا المصادم ، والذي كما قلنا أعلاه ، قد باشر المهندسين القائمين عليه بتبريده وتحضيره استعداداً لإطلاق الحزمات الأولى من البروتونات بسرعات تجريبية منخفضة خلال هذه المراحل الأولية من الأسابيع القليلة القادمة ، ترتفع إلى السرعات القصوى المقاربة لسرعة الضوء خلال شهر يناير فما بعده من العام المقبل يخرج فيها علم الفيزياء من إطار المعلوم ويدخل إلى عالم الإستكشافات المجهول.

أما النهاية فهي تخضع إلى احتمالين ، كلاهما نظري ، والثاني أقرب إلى التحقيق من الأول. فأما الإحتمال الأول فهو يتعلق بالخطورة الكارثية التي قد يسببها هذا التصادم حيث من الممكن أن ينتج عنه أنواع من الجسيمات الغريبة التي قد تسبب خطر على الحياة أو على الكرة الأرضية نفسها ، وأحد هذه المخاطر هي ظهور ثقوب سوداء صغيرة Black Holes ، إذ تشير المعادلات الرياضية إلى إمكانية حدوثها ، ولكن نفس هذه المعادلات تتوقع منها أن تتبخر وتتلاشي فور تكوينها مما يحصر خطورتها ضمن الإحتمال النظري المستبعد وخارج الإحتمال الوارد الحدوث. والسؤال المرعب الذي يطل علينا بوجهه القبيح من بين صفحات دفاتر هذه المعادلات هو : ماذا لو أخطئت الحسابات الرياضية ولم تتلاشى هذه الثقوب كما يتوقع بل بقت لوهلة أطول تسقط فيها القيَم الرياضية التي أنفق العلماء عقود من أعمارهم في الوصول إليها ؟ هل يُجدي الإعتذار Oooops ... sorry , I made a mistake حينذاك ؟

في هذه الحالة سوف يتحقق السيناريو الكارثي المستبعد ويسقط أول سايكوباثيك جينيسايدل ثقب أسود إلى مركز الكرة الأرضية خلال جزء من الثانية من تكوينه ويلتقمها بمن عليها ، بهذه السرعة وهذه البساطة. وبهذاا يُسدل الستار السرمدي الذي حاكه الإنسان بيديه على مسرحية الحياة ومسرحها. وتجد الشمس نفسها بعد هذه الصدمة الكونية حائرة هائمة في شُعب درب التبانة تتسائل أين ذهب حمّام العين الحمئة التي تغطس فيها كل ليلة قبل أن يأتي دورها هي الأخرى لتصبح لقمة في فم وحش كوني كاسر لايفلت منه حتى نور وجه خالقه الكريم.

قبل أن يهرع بعضكم جزعاً وهلعاً للوضوء والصلاة والإستغفار تحصناً لاستجوابات نكراً ونكير الوشيكة وخوفاً من الشجاع الأقرع الذي يمكن أن يرتشى بباروكة ، أود أن أطمأنكم بأنه بالرغم من وجود هذه الإحتمالات نـــظـــريـــاً إلاّ أنها غير واردة الحدوث ، إذ لايوجد شخص واحد من العشرة آلاف عالم ومهندس ممن قاموا بتصميم وبناء وإدارة وتشغيل هذا المشروع أو هيئة واحدة من مئات الجامعات والمختبرات المشاركة فيه تعتقد بأن أي من هذه الإحتمالات الخطرة ممكنة الوقوع.

أما الإحتمال الثاني فهو أقرب إلى التحقيق ، وسوف يقدم ، إن تحقق ، أثمن وأعز وأغلى خدمة للبشرية جمعاء منذ ظهور اللوشن الدارويني ليبرء رمد العقول ويبدد الغشاوة التي أعمتها منذ أن نظر الإنسان إلى الدنيا حوله فلم يرى إلاّ نفسه وعمي عن موقعه منها ، وهو ، أي الإحتمال الثاني ، في الوصول إلى مايطلق عليه بكل تعظيم "نظرية كل شئ" The Theory of Everything في علم الفيزياء. ولكن قبل أن أتوغل في هذا الدرب ، دعوني أولاً أنغمس ، من خلال بعض السطور ، في نشوة تكسير الصنم الذي نُفخ فيه الحياة ليصبح أول وأوضع وأغبى حرامي ابتلى الإنسانية ، أدى تصرفه المتهور الأحمق إلى مآسي وآلام ومعاناة لنسله البريئ يعجز الخيال عن وصفها امتدت من تاريخ إخراجه ذليلاً من الجنة إلى يوم إدخالنا نحن في النار بسببه ، وكل هذا نتاج سرقته لتفاحة ، تخيلوا ماكان ليحدث لو مسه الشيطان بلحظة جنون قطع فيها الشجرة !!!

لازالت الدوغمائية اللاهوتية الخلقية تترنح من وجع الضربة التي وجهتها لها نظرية تشارلز داروين للتطور بواسطة الإنتخاب الطبيعي منذ أن ظهرت على الساحة لتزيح ، مدعمة بصلابة النهج العلمي ، المفاهيم اللاهوتية البالية عن المصطبة التي جثمت فوقها لعشرات القرون ، وترتقي إلى عرش المعارف التي حققتها البشرية. ولكن هذه الدوغمائية العنيدة لاتزال واقفة تتقلقل على قوائم ضعيفة خائرة تترقب في أي لحظة الضربة القاضية التي سوف تسقطها على مرتبة الخرافة الموثقة وتبقيها ملقاة هناك بلا حياة تطأها أقدام التقدم المعرفي وتتغذى عليها ديدان الزمن.

هذه الضربة سوف تأتي لامحالة ، إما من مختبرات علوم الأحياء أو من أنفاق التجارب الفيزيائية كالمصادم الهدروني ، وهي مسألة وقت فقط. إن جائت من مختبرات الأحياء ، والأبحاث قائمة ضمن هذا التخصص في مختبرات كثيرة ، فسوف تكون من خلال خـــلـــق تركيبة كيميائية عضوية شُكِّلت من مركبات جماد غير حية تنطبق عليها شروط الكائن الحي وقادرة على التكاثر والتطور ، وليس من الضروري أن تكون خلية متكاملة بل يكفي أن توفي بشروط الحياة أياً كانت طبيعتها. أما إن جائت من التجارب والأبحاث الفيزيائية ، فسوف تأتي من خلال التوصل إلى نظرية كل شئ الشاملة السابق ذكرها. هذه النظرية سوف تمكن العلماء من تفسير جميع الظواهر الطبيعية بشكل كامل ومترابط وهذا يعني معرفة كيف ومن أين نشأ الكون ، أي بعبارة أخرى ، سوف نحصل على أطار من المعلومات نتوصل من خلاله إلى تفسير لعملية الخلق نفسها بدون اللجوء إلى النصوص المقدسة لتفسيرها ، كمثال المطر الذي نعرف حسب التفسير العلمي أنه ينتج عن تكثف أبخرة البحار في طبقات الجو العليا الباردة وتشكلها كقطرات ماء تنزل كأمطار وليس بسبب رش الملائكة أو الآلهة المختبأة خلف السحب.

إذا كان هناك أحد لم يستوعب مضمون نتائج هذه الأبحاث ، إن تحققت بالشكل المتوقع لها ، فسوف أبسطه أكثر : يعني أن الإله سوف يفقد جميع وظائفه التي احتكرها منذ أن عينه الإنسان كخالق وحاكم وقاضي وجلاد ، وينزل من عرشه لينظم إلى طابور العاطلين عن العمل في دوائر التوظيف. وهذه هي النهاية المقصودة من العنوان.

مصادم الهدرونات الكبير الذي سوف يبدأ تشغيله الشهر القادم سوف يعطينا فرصة حقيقية للوصول إلى مثل هذه النظرية. وسوف أنشر أهم الإكتشافات التي يتم التوصل لها أول بأول في هذه المدونة.

Watch this space

هناك تعليقان (2):

rai يقول...

عزيزي ما هي أخر أخبار المشروع , لم نجد له أي خبر وحتى وسائل الاعلام تناسته فهل التناسي هذا متعمد أم أن هناك إخفاء للخبر من قبل القائمون على المشروع ؟

متابع للمدونة الاكثر من رائعة .

basees@bloggspot.com يقول...

أهلاً بك أخي راي وشكراً على الإطراء. المشروع جاري تنفيذه حسب الجدول الجديد بعد التوقف المؤقت والتصليحات التي أجريت عليه ، وأظن أن الخمود الإعلامي في متابعة تطوراته قد يكون ناتج عن ملل الإنتظار أكثر مماهو إخفاء متعمد لإخباره. على أي حال ، لقد استجدت أخبار جديدة عنه مؤخراً سوف أنشرها في المدونة خلال اليومين القادمين.

أطيب تحياتي